لا يوجد شك في أثر التدخل الغربي في ليبيا، الذي علاوة على نتائجه الجيوستراتيجية الكبرى على البلاد ومحيطها الإقليمي، كما تبين ذلك حالة شمال مالي، فهو يفعل في سيرورة إعادة البناء الوطنية وإنتاج الهويات، فيمثل بذا عامل إخلال بإمكانات الانتقال الديموقراطي.
الانتفاضة الليبية لم تبدأ قبلية
كان مجرَّد تنظيم الانتخابات الأخيرة تحديا كبيرا. فقد انتهى عهد القذافي وسط الفوضى والاضطراب. والصورة التي رسمتها ليبيا حينذاك كانت تتشكل من ميليشيات مسلحة تفرض قانونها بالقوة وتتصادم في ما بينها، علاوة على التصفيات الجسدية السريعة، ومنها تصفية القذافي نفسه، مروراً بالرغبات الانفصالية للمنطقة الشرقية، والصراعات بين القبائل، والمصادمات ذات الطابع الإثني أو الحملات العقابية ضد المهاجرين. وبدت ليبيا كبلد يتسلح وينقسم وفق شروخ عشائرية وقبلية أو جهوية. كما بدا أن غياب السلطة المركزية والانكفاء نحو الهويات العشائرية أو الدينية وعوامل التجاذب المتنوعة، ستكون عقبات تقف حائلا ضد إعادة بناء دولة قانون، بل ببساطة أي دولة مستقرة.
هل استولى الميت على الحي إذاً؟ ما الذي كان بإمكان المواجهات بين الميليشيات، خصوصاً القبلية منها، أن تعنيه في سياق ما بعد الثورة، حين كانت ولادة سلطة مركزية تبدو شاقة؟ هل تداعيات الانتفاضة الليبية تنحصر في استحضار القبائل إلى صدارة المشهد لتنتقم من المدينة ومن الدولة الحديثة؟ هل نحن أمام إعادة الانتاج الأبدية للمشهد الخلدوني، حيث يحدث الانبعاث الدوري لـ "العصبيات" القبلية، المنطلقة من أعماق الأنماط الريفية، والتي تفكك السلطات؟ ألا تؤكد "عودة" القبائل في ليبيا، أكثر من عودة الاسلاميين إلى صدارة المشهد في مصر وتونس والمغرب، "قدرٌ" يتمثل بتجذُّر العالم العربي في علاقات التضامن الابتدائية، الطوائفية والتقليدوية، كعقبات أمام العلمنة، ويبرّر التسلُّط كوسيلة ضرورية للتماسك الوطني بوجه إغراءات التفكك؟
رغم ذلك، يجدر التذكير بأن الحركة المعارضة في ليبيا وُلدت وتنظّمت على أسس مدنية، حديثة، وتأييدٍ واسع من السكان، ووفق دينامية تتجاوز عوامل التشرذم، والتي من بينها الانتماءات القبلية التي يتم تضخيمها اليوم.
كان للثورتين التونسية والمصرية اثرهما في الدفع إلى موجة الاحتجاج التي انطلقت من الشريحة الأكثر دلالة للمجتمع المدني الليبي، المحامين، ومن المدينة المتمردة تقليديا، بنغازي، وانتشرت وطنيا حتى طرابلس قبل أن تواجَه بقمع دموي حرف ديناميتها. ولعبت شبكات التواصل الاجتماعي دورا في التحرك، عززه نشاط المدونين وعلى رأسهم "دبوس" (الذي طارده القذافي ثم اغتاله بعد ذلك قناص)، والتقت بتحرك كان عمره أشهرا، وكان سابقا على الانتفاضات المنفجرة في البلدين الجارين، حيث كانت "لجنة أهالي المفقودين" تنظم اعتصاما أسبوعيا أمام قصر العدل في طرابلس لمعرفة مصير المفقودين من سجن أبو سليم، حيث جرت تصفية 1200 سجينا إسلاميا عام 1996. وقد أدى اعتقال المحامي فتحي طوربال، وهو أشهر المدافعين عن حقوق الإنسان في البلاد إلى تسارع الأحداث، كما أدى القمع الدموي العنيف إلى دفع الحركة إلى التسليح المبكر، حتى بالقياس إلى ما جرى في سوريا.
التمدين المكثَّف أضعف الولاءات التقليدية
الهويات القبلية في ليبيا، مثلما هو الحال في دول المغرب العربي، حاضرة في الذاكرة الجماعية، وتلعب بتفاوت دوراً في تعيين وجهة الميول والتضامنات. لكن الرابط القبلي تأثّر بشكل عميق بالتحولات الاجتماعية التي أضعفته وغيّرت طبيعته. فهو اهتزّ جدياً بفعل تمدينٍ قوي يتفوق على سائر دول المغرب. ففي عام 2004، كان 86 في المئة من الليبيين حضريون بالفعل، بمقابل 64 في المئة في تونس و55 في المئة في المغرب. بل يتجمع القسم الأكبر من الحضريين الليبيين في أربع مدن، وتضم طرابلس وحدها 28 في المئة من مجموع السكان (حوالي مليون و800 ألف قاطن). وغالبية كبيرة من الليبيين هم من سكان المدن منذ جيلَين على الأقل. فمنذ 1975، بلغ منسوب التمدين 61 في المئة، وعام 1980 وصلت هذه النسبة إلى 70 في المئة. أدى استقرار التحضر وصموده زمنياً إلى أشكال جديدة من الهويات المدينية. بل يمكن لعامل أساسي أن يشهد من دون لبس على تآكل المنطق القبلي: مؤشر الخصوبة انخفض من 7,57 طفل لكل امرأة في 1970 إلى 2,5 طفل للمرأة الواحدة في 2011. يخفض هذا المسلك الديموغرافي من احتمال تزايد الذرية الذكرية، وهي أساس إعادة إنتاج نظام القرابة والقبيلة، ويشير إلى أن الاستراتيجيات الديموغرافية والزوجية تخطّت المنطق القبلي الذي يفقد بهذه الطريقة أساس إعادة إنتاج نفسه.
لقد ظهر هذا الاختلاط السكاني بوضوح خلال الانتفاضة، حين لم يكن الحيّز القبلي مهيمناً، لدرجة أن معظم المقاتلين كانوا يجهلون الجذور القبلية لرفاقهم في السلاح. الكتائب العسكرية الوحيدة التي كانت تتمتع بتجانس قبَلي، كانت تلك التي تأسست في الداخل الليبي، في البلدات أو القرى الصغيرة حيث لم يكن هناك اختلاط سكاني.
لكن درجة العسكرة التي فُرضت على السكان أتاحت للقبائل فرصة البروز، بغاية "استراتيجية" هي الضغط على موازين القوى المستقبلية. لأن متانة ومقاومة "العصبية" القبلية تجعلانها تمتلك قدرة أكبر على التعبئة العسكرية. وهذه القدرة المفرطة على التعبئة تؤدي إلى التشويش على المشهد السياسي، والتمويه على الوقائع المجتمعية الجديدة. وقد تعاظمت هذه القدرة العملية للقبائل لأن الحركة المتمردة على النظام كانت نتيجة تعبئة محلية ولامركزية، أعاق العنف المفرط والتدويل السريع للصراع إمكانات توحّدها وفكِ حواجزها الأصلية. وهكذا، وجدت القبيلة الليبية نفسها تمتلك فعالية أكبر بما لا يقارَن من وزنها الاجتماعي والديموغرافي.
أخيراً وخصوصاً، فليس التعبير من خلال القناة القبَلية نتيجة لانهيار الدولة. قام القذافي، معاكساً بذلك وجهة التغيرات المجتمعية، بترقية الإطار القبلي إلى دور السلطة الحصرية للتفاوض مع السكان، بهدف تهميش احتمال قيام أي آلية مؤسساتية أو أي كيان مدني مستقل. إنّ توزيع الريع بشكل مشروط بالولاء السياسي من خلال زعماء القبائل حصراً، أعاد اختراع التقليد القبلي، وولّد تشدداً في العداوات، وصعوداً للعدوانيات، وانكفاءً نحو الهوية القبلية التي تحولت إلى الوعاء الحصري لاستقبال المطالب الاجتماعية والطموحات الشخصية بالترقي الاجتماعي.
عودة القبائل، وجهُ آخر للتحدّي
اتخذ القذافي إجراءات عدة لإسناد القبلية، ومنها قانون 1990 الذي منح كل قبيلة الملكية الحصرية للأراضي التي كانت مشاعا لها قبلا، بينما هي أصبحت جزءا من الحيز العقاري المديني. وبالمقابل، كانت السلطة تتمركز بشدة. فقد أدى تهميش الجيش إلى تجزيء الأجهزة الأمنية ، لكن في الوقت نفسه إلى توسيع هائل لعديدها، وإلى تسييج أمني غير مسبوق للبلاد. لقد كان هناك حوالي 200 ألف عسكري لسكان لا يتعدون الستة ملايين.
عام 1976، كان لم يبق من الأعضاء الـ12 لمجلس قيادة الثورة، الذين كانوا ينتمون إلى فئات مضطهَدة أو مُهمشة من مختلف القبائل، إلا أربعة. وجرى استبدال الجميع بأناس من "سرت" ومن قبيلة القذافي نفسه. وقد عزز الريع النفطي هذه الوجهة، فهو بقي ملكية عائلية، ثم عززها الحصار في التسعينيات، وكذلك الصدمة النفطية المضادة، أي انخفاض الريع، ما قوى أهمية المضاربة العقارية. ونشأت "لجان التطهير ومكافحة الفساد" على هذا الأساس، وكان بإمكانها مصادرة العمليات التجارية والعقارية "غير المُجازة" وقمع شبكات الأعمال المستقلة، كما حدث مع مقاولي درنا. هكذا ارتفع معا، كالعادة، منسوب القمع والنهب. واشترك هذا مع "تلزيم" استخدام العنف عبر وحدات النخبة التي يديرها أبناء القذافي الثلاثة ووحدات المرتزقة (الكتيبة الإسلامية الافريقية). أما على المستوى المحلي، فقد مُنح هذا التلزيم للتراتبية القبلية.
ثمة الكثير من المقارنات مع العراق بخصوص آليات انهيار الدولة وانتشار الخصوصيات الناجم عن التدخل العسكري الأجنبي، وتذرر المجتمع الذي يجعل البديل الديموقراطي صعبا. ففي ليبيا كما في العراق، جرى التلاعب بالمنافسات القبلية والجهوية (والمذهبية في حال العراق)، ما أدى إلى انتشار العنف داخل المجتمع، والى بناء أجهزة مختلفة وميليشيات على أسس الهويات الابتدائية.
أما المواجهات التي تصنف بأنها قبلية وتتصدر المشهد اليوم، فهي ليست بالأمر الجديد، لا بشكل تمظهرها، ولا بخيوط الانقسام التي تفعل فيها. عام 2008، وقبل ثلاث سنوات من سقوط القذافي، حدثت مجابهات دموية في "الكفرة" بين قبائل التبو والزوايا. وهي قبائل يعبِّر تمركزها في المناطق الحدودية عن أهمية السيطرة على التجارة العابرة للحدود، موضع التنافس الأبدي. كما أن قمع البربر كان ممارسة سائدة منذ وصول القذافي إلى السلطة. وقد راجت العديد من حالات الصدام القبلي على امتداد العقد الأخير لدرجة أقلقت النظام، الذي وجد نفسه مضطراً للبحث عن تقارُب مع عدوّه التاريخي، الحركة السنوسية، بسبب طابعها العابر للقبائل والاثنيات، في حين كانت التعابير العنفية للتجزئة تتضاعف. وهي كانت منذ ذلك الوقت تشير إلى محدودية أشكال الهيمنة المبنية على الولاءات غير التوسطية والمجزأة، وإنْ في سياق ريعي. وهي، بالتوازي مع ارتفاع وتيرة حركات الاحتجاج المدنية، الوجه الآخر للضعف الضارب في البناء التسلطي.
إن تموضُع الهويات الابتدائية على الساحة، تلك التي فرضتها السلطة لتسهيل التبادلات السياسية، تحوّلت إلى عنصر انعدام استقرار لهذه السلطة نفسها. وهذه الترجمة العنيفة للتشرذم الذي نراه في مرحلة ما بعد القذافي لا تنبع جذورها إطلاقاً من الحرب القبلية، ولا من إعادة إنتاج لمشهدٍ خلدوني ما، يقوم على انتقام الريفيين من الحضريين. بل هي نمط تفاوض قسري: كانت كذلك، وما زالت اليوم، وإنْ في سياق جديد من الحرب والسلطة المركزية غير المستقرة. وهي تطالب بالاندماج.
إن إعادة بناء الدولة في ليبيا هي قبل كل شيء إعادة بناء لأجسامها التوسطية التي دمّرتها الدولة القذافية.
-------------------
كادر
- كانت ليبيا أول مكان جُرِّب فيه القصف بالطيران. حدث ذلك عام 1911، أثناء حرب احتلالها الاستعمارية من قبل الإيطاليين.
- مساحة ليبيا مليون و759 الف كيلومتر مربع. لم يتبق من المساحات المزروعة (التي كانت حتى الخمسينيات 30 في المئة من مساحة البلاد) إلا 1 في المئة منها، و8 في المئة منها مراع. وليبيا هي المنتج الثاني في افريقيا للنفط ويقدر احتياطيها منه بأكثر من 46 مليار برميل عام 2011، وهو يمتاز بنوعية جيدة وبانخفاض كلفة استخراجه وبقربه من أسواقه (أوروبا). يمثل النفط 93 في المئة من قيمة عائدات البلاد، و95 في المئة من صادراتها. وتبلغ حصة النفط من الناتج المحلي الخام ضعف ما هي عليه حصة السعودية مثلا، وثلاثة أضعاف حصة إيران. لدى ليبيا أيضا غاز لم يُستخدم بعد، أو استخدم بشكل قليل (28 مليار متر مكعب حتى 2009 من أصل 1548 مليار متر مكعب).
[نشر هذا المقال بالإتفاق مع ملحق "السفير العربي“ الصادر عن صحيفة ”السفير“ اللبنانية.]